0:00
موضوع درسنا اليوم هو علم النفس المرضي.
الأمراض التي تصيب العقل،
أي الاضطرابات العقلية، أو الاضطرابات النفسية كما تسمى عادة.
يواجه المشتغلون في مجال علم النفس المرضي تحديين حقيقيين.
أولاً، يجب تحديد إن كان الشخص يعاني من اضطراب نفسي، وإن كان الأمر كذلك تعين تشخيص الاضطراب.
وبالإضافة إلى ذلك، علينا تقديم العلاج المناسب للشخص، وذلك حسب التشخيص.
بشكل عام يمكن اعتبار تشخيص وعلاج الأمراض النفسية كبقية الأمراض
الأخرى مثل التهاب الرئة أو السكري، وهي أمراض ينبغي تشخيصها وعلاجها.
والفرق هو أن الأمراض النفسية هي أمراض ناجمة عن اضطراب دماغي، أما
بقية الأمراض فهي أمراض ناجمة عن اضطرابات في أعضاء أخرى من الجسم، كجهاز الدوران أو الجهاز التنفسي أو البنكرياس.
عندما يذهب المريض إلى الطبيب فإنه يصف له ما يشعر به.
"لدي سعال"، أو "أشعر بضعف وتعب"، ويقوم الطبيب بإجراء فحوصات له،
كأن يقوم بفحص نفسه بواسطة السماعة أو أن يحوله لإجراء فحص دم.
الهدف من هذه الفحوصات هو تشخيص المرض الذي يعاني منه الشخص.
ولا ينطوي التشخيص بحد ذاته على أهمية،
إلا إن كان لدينا علاج يمكن تقديمه للمريض من أجل علاجه من المرض الذي تم تشخيصه لديه.
في حال وجود علاج مناسب، من المهم جدًا إجراء تشخيص صحيح للمرض.
عند القيام بتشخيص وعلاج الأمراض هناك أمران مهمان
يجب أن نضعهما دائمًا نصب أعيننا.
بالنسبة للتشخيص، يجب أن يتمتع التشخيص بالمصداقية والصلاحية.
مثلاً، إن قمت بتصورير الرئتين لتشخيص التهاب الرئة،
فإن صورة الأشعة التي أحصل عليها يجب أن تكون متطابقة عند تكرار عملية التصوير.
ويعني هذا أن المقياس يتمتع بالمصداقية.
بعد أن تحققنا من أن المقياس يتمتع بالمصداقية، علينا أن نتحقق من أن تصوير الرئتين قادر بالفعل
على الجزم بوجود التهاب رئة وتمييزه عن أمراض الرئة الأخرى، وهذا يعني أن المقياس يتمتع بالصلاحية.
أما فيما يخص العلاج فيجب أن يكون العلاج فعالاً.
أي أن علينا أن نتحقق من قدرته على الشفاء من المرض.
ربما يبدو الأمر بسيطًا للغاية، ولكنه يشكل تحديًا حقيقيًا في مجال تشخيص الاضطرابات النفسية وعلاجها.
ولكن قبل أن نبدأ في الحديث عن التشخيص والعلاج، علينا أن نحدد ما هو موضوع حديثنا.
ما هو الاضطراب النفسي؟
يمكن العثور على تعريف الاضطراب النفسي في كتاب يسمى DSM،
Diagnostic and Statistical Manual of Mental Diseases.
تقوم بإصدار ال-DSM منظمة أطباء النفس الأمريكيين، ويضم بين دفتيه
جميع الاضطرابات النفسية ويحدد بدقة الأعراض التي تميز كلاً منها.
هذا هو ال-DSM، ويمكنكم اعتمادًا
على سمكه استنتاج أنه يحتوي على قائمة طويلة جدًا من الاضطرابات النفسية.
دعونا نبدأ بتعريف الاضطراب العقلي.
حسب ال-DSM، فإن الاضطراب العقلي هو متلازمة،
أي مجموعة من الأعراض التي تتسم باضطراب بالغ في المعرفة،
أو في ضبط العواطف والسلوك، يتجلى في انخفاض في وظائف عمليات نفسية،
أو بيولوجية أو تطورية تشكل قاعدة الوظائف العقلية.
عادة ما يرافق الاضطرابات العقلية معاناة حقيقية و/أو انخفاض كبير في القيام بالوظائف الاجتماعية،
أو المهنية أو أي وظيفة أخرى يقوم بها الشخص في حياته.
أي أننا نتحدث عن صعوبات نفسية كبيرة تسبب المعاناة وتؤثر سلبًا على القيام بالوظائف اليومية.
الاكتئاب، والقلق بأنواعه، وانفصام الشخصية،
هذه بعض الأمثلة على الاضطرابات النفسية الواردة في ال-DSM وسنتوسع
في الحديث عن بعض منها في وقت لاحق.
ويحتوي ال-DSM في الواقع على حوالي 300 اضطراب نفسي تم تعريف كل منها
بواسطة قائمة من الأعراض المميزة.
لقد جرى تصنيف الاضطرابات النفسية المختلفة في DSM في مجموعات.
مثلاً، اضطرابات النمو العصبي من قبيل التوحد، أو التخلف العقلي أو انفصام الشخصية،
اضطرابات الاكتئاب، واضطرابات القلق، واضطربات الوسواس القهري، واضطرابات الصدمة،
واضطرابات النوم، والاضطرابات الجنسية، والإدمان، واضطرابات الشخصية وغيرها.
هناك قائمة بجميع الاضطرابات النفسية التي تنتمي إلى كل من هذه المجموعات.
مثلاً، تحت اضطرابات القلق هناك الرهاب، واضطراب القلق الاجتماعي، واضطراب الهلع.
وهناك قائمة بأعراض كل من هذه الاضطرابات.
لنأخذ على سبيل المثال اضطراب الهلع.
يعرّف اضطراب الهلع على أنه نوبات فزع غير متوقعة ومتكررة.
اضطراب الهلع هو عبارة عن ارتفاع شديد في الشعور بالخوف أو عدم الراحة الشديد
خلال دقائق، ويكون مصحوبًا في العادة بأربعة على الأقل من الأعراض التالية: تسارع نبضات القلب،
تعرق، ارتجاف، ضيق التنفس، شعور بالاختناق،
ألم في الصدر، غثيان، دواخ، قشعريرة،
شعور بفقدان السيطرة على الذات أو الجنون، خوف من الموت.
هذه الأعراض تبدو كوصف نوبة قلبية،
وبالفعل فإن الكثير من الأشخاص الذين يعانون من نوبة هلع يذهبون أحيانًا إلى غرفة الطوارئ،
ظنًا منهم بأنهم على وشك الموت.
هذا شعور مؤلم جدًا.
السمة الثانية المهمة لاضطراب الهلع أن أحد الأمور التالية على الأقل
يحدث بعده: الخوف المستمر من تكرار النوبة ومن عواقبها،
الخوف من فقدان السيطرة أو من نوبة قلبية، تغير في الوظائف المرتبطة بالنوبات.
مثلاً، السلوك الهادف إلى تجنب تكرر النوبات مثل تجنب
الرياضة التي تؤدي إلى تسارع نبضات القلب والتنفس وبالتالي فقد تشكل عاملاً محفزًا للنوبة.
أو تجنب الأماكن التي يخشى الشخص حدوث نوبة الهلع فيها، كالأماكن التي سبق وعانى الشخص فيها من نوبة.
وعلاوة على ذلك لا بد من التحقق قبل تشخيص الوضع على أنه نوبة هلع من أنه لم يحدث كنتيجة
لتعاطي المخدرات أو لأوضاع طبية أخرى من شأنها التسبب في شعور مشابه لنوبة الهلع.
يقوم ال-DSM في الحقيقة بوصف الاضطرابات المختلفة ولكنه لا يذكر أسباب حدوثها.
ويعود ذلك إلى عدم وجود اتفاق بين الباحثين حول أسباب الاضطرابات المختلفة.
وتقدم المذاهب المختلفة لعلم النفس المرضي تفسيرات مختلفة.
إذ يعزو بعضها الاضطرابات إلى أحداث وقعت في الطفولة، بينما ترجع الأخرى إلى اضطرابات دماغية،
وبعضها الآخر لميول معرفية. ولا يتوفر لدينا دليل في الوقت الحاضر على صحة أي منها.
ولهذا السبب فإن ال-DSM يتجنب ذكر الأسباب،
إلا في الحالات التي يشكل فيها سبب الاضطراب جزءًا من تعريفه.
على سبيل المثال، PTSD، Post Traumatic Stress Disorder،
يتم تعريفه على أنه اضطراب ناجم عن صدمة.
في هذا المثال يشكل سبب الاضطراب جزءًا من تعريفه.
فلولا حدوث الصدمة لما أمكننا تعريف الاضطراب على أنه PTSD.
أما بقية الاضطرابات فنحن نكتفي بذكر الأعراض التي تميزها،
دون ذكر أسبابها.
يتم إصدار نسخة جديدة من ال-DSM مرة خلال بضع سنوات حسب الدراسات التي تجرى في المجال.
إن كشفت دراسة مثلاً عن أن اضطرابين ظننا في الماضي أنهما مختلفان عن بعضهما البعض
هما في الواقع اضطراب واحد له أشكال مختلفة، أو إن تبين أن اضطرابًا ما ظننا أنه
ينتمي لمجوعة ما أشبه باضطرابات تنتمي لمجموعة أخرى، يتم تحديث ال-DSM ليشمل هذه التغييرات.
مثلاً، في النسخة الأخيرة من ال-DSM الصادرة عام 2013،
اضطراب الوسواس القهري، الذي كان يصنف على أنه أحد اضطرابات القلق، تحول إلى مجموعة بحد ذاته.
ما فائدة ذلك؟
لماذا نحن بحاجة لكتاب يقوم بتصنيف الاضطرابات النفسية وبتشخيصها؟
هناك العديد من الأسباب.
السبب الأهم هو تقديم العلاج المناسب.
هل هناك بالفعل علاج لجميع الاضطرابات النفسية الثلاثمائة الواردة في ال-DSM؟
ليس لجميعها، وإنما لبعض منها بالتأكيد، وسأضرب أمثلة على ذلك فيما بعد.
هناك سبب آخر له علاقة بسير العلاج،
إذ إن تصنيف الاضطرابات ووصفها يساعد الأخصائيين على فهم ضائقة الحاصل على العلاج.
إن كنا نعرف أن هناك أعراض محددة تظهر في العادة معًا في اضطراب ما،
فسيكون بإمكاننا سؤال الشخص الذي يذكر بعض الأعراض
عن الأعراض الأخرى، وهكذا ستتسنى لنا معرفة الاضطراب الذي يعاني منه وشدته.
أما السبب الثالث فهو أن تصنيف الاضطراب يساعد المختصين، كالأخصائيين النفسيين أو الأطباء
النفسيين أو العاملين الاجتماعيين الذي يقدمون العلاج للشخص من التواصل فيما بينهم بخصوص المشكلة التي يعاني منها.
هناك سبب آخر، من وجهة نظر البحث، وهو أنه كي تتسنى لنا دراسة الاضطرابات النفسية المختلفة،
ولفهم الآليات التي تؤدي إلى حدوثها، ولقياس نجاعة العلاج الذي يتم تقديمه لكل نوع من هذه الاضطرابات،
فإن علينا تحديد المجموعة التي نقوم بدراستها وتعريفها.
أما السبب الأخير والأكثر ارتباطًا بالواقع فهو أنه يتعين على الشخص الراغب في الحصول على
خدمات رفاه اجتماعي وتأمين طبي أن يحصل على تشخيص تعترف به السلطات.
التشخيص المستند إلى ال-DSM هو تشخيص معترف فيه يتمكن الشخص بواسطته من تلقي الخدمات الاجتماعية والعلاج.
يمكن القول إنه أداة عمل ضرورية جدًا، ولكن لل-DSM سلبياته أيضًا.
أولاً، على خلاف الأمراض العضوية من قبيل السكري والسرطان
فإن نظرة الناس إلى الاضطرابات النفسية لازالت سلبية.
ونتيجة ذلك فهناك أشخاص لا يرغبون في الحصول على تشخيص يفيد بأنهم يعانون من اضطراب نفسي.
ثانيًا، لا يتسنى لنا دائمًا وصف الأعراض التي يعاني منها الشخص على أنها اضطراب محدد.
وأخيرًا، في بعض الأحيان يكون من شأن معتقدات ثقافية وسياسية
التأثير على اعتبار سلوك ما اضطرابًا نفسيًا أم لا.
وأفضل مثال على ذلك المثلية الجنسية التي
لا تعتبر اضطرابًا نفسيًا، ولكنها كانت تعتبر كذلك حتى عام 1973.
ولهذا السبب لم يُسمح للمثليين في الماضي بالعمل كأطباء، أو معلمين أو خبراء نفسيين.
أدعوكم لسماع بودكاست رائع ومدهش من البرنامج الإذاعي This American Life،
يتحدث عن العوامل التي أدت إلى إخراج المثلية الجنسية من ال-DSM.
وتروي القصة حفيدة الطبيب النفسي الذي كان يرأس منظمة الأطباء النفسيين
الأمريكية المسؤولة عن ال-DSM، وقد تبين أنه عدا عن الأسباب الموضوعية التي
أدت إلى إخراج المثلية من ال-DSM هناك أيضًا قصة شخصية مثيرة للاهتمام، والكثير من السياسة، بطبيعة الحال.
هناك رابط للبودكاست في موقع الكورس.
كما يحتوي ال-DSM على معلومات عن مدى شيوع كل من الاضطرابات النفسية لدى الأشخاص،
ويتبين أن الكثير منها شائعة جدًا.
يمكننا أن نرى مثلاً، أن حوالي 50% من الناس عانوا على الأقل مرة واحدة في حياتهم من
اضطرابات نفسية، كما أن نسبة غير قليلة تبلغ 25% قد عانت من اضطراب نفسي ما في العام الأخير.
هذه نسب مرتفعة جدًا
من الأشخاص الذين تتأثر وظائفهم الاجتماعية أو المهنية سلبًا كما أنهم يتعرضون لمعاناة شديدة.
لذا فإن من الضروري أن نجد طريقة لتحديد الأشخاص الذين يعانون ولمساعدتهم.
نلخص بالقول إن ال-DSM هو دليل يحتوي على جميع الاضطرابات النفسية التي تمت دراستها وتعريفها وتصنيفها.
ويتسنى للمعالج بواسطته تشخيص الاضطراب
الذي يعاني منه الشخص اعتمادًا على الأعراض التي يشعر بها.
سنتحدث في وقت لاحق من الدرس عن التحديات التي يواجهها طاقم العلاج عند الحاجة
لتشخيص الاضطرابات النفسية وعلاجها.